البعض يقتل نفسه لأجل الحب، يذوب في كيان الآخر، يُضحي بأحلامه لأجل أحلام غيره، ويطلقون عليه الحب! فلماذا يُوصم حب الذات بالأنانية؟ ولماذا يُقابل بالسخرية والاستهجان؟
هل لأننا نشأنا في عالم يصفّق لتضحيات المرأة، ويبارك كبت رغباتها والتخلي عن حاجاتها؟
لماذا يبدو حب الذات خطيئة أو نرجسية؟
ماذا لو أنه البداية فقط؟ بداية علاقات صحية مع الذات والجسم والعمل والحب.
في هذا المقال نعيد النظر في مفهوم حب الذات، وكيف له أن يكون بوصلتك الدقيقة لتحديد اتجاهات حياتك الجديدة.
ما هو حب الذات؟
إن حب الذات هو أن تقدّري نفسك من خلال تبني ممارسات واعية لدعم النمو والازدهار الجسمي والنفسي والروحي.
وينطوي على الاعتراف بقيمتك كإنسان، وتلبية حاجاتك بطريقة صحية دون الشعور بالذنب أو المبالغة في إرضاء الآخرين.
وهو عنصر أساسي لدعم الصحة النفسية، إذ يرتبط بتقدير الذات والمرونة العاطفية والشعور بالكفاءة والقدرة على التشافي من التجارب المؤلمة والصعبة.
كثيرًا ما يُساء مفهوم حب الذات في مجتمعاتنا ويُخلط بينه وبين الأنانية والنرجسية. لكن في الحقيقة، لا يعني تفضيل الذات على حساب الآخرين، بل يعني القدرة على التعامل مع الذات باحترام ووعي ضمن إطار تتوازن فيه العلاقات بشكل صحي.
أمثلة على سلوكيات تعبّر عن حب الذات:
- الحديث مع الذات بأسلوب لائق وإيجابي.
- إعطاء الأولوية للراحة النفسية والجسمية عند اتخاذ القرارات.
- التوقف عن جلد الذات ولا سيما عند الفشل في القيام بمهمة ما.
- تعزيز الثقة بالنفس وتقدير الإنجازات مهما كانت صغيرة.
- اللطف والرحمة مع الذات في لحظات الألم أو الضعف.
- وضح حدود صحية في العلاقات والعمل.
أهمية وفوائد حب الذات
تشير أبحاث متزايدة إلى أن حب الذات وبعض خصائصه مثل التعاطف مع النفس والتواصل مع الذات مهم لصحة ورفاه الإنسان. إذ يساعد في تحسين أعراض مشاكل الصحة النفسية كالاكتئاب والقلق والتوتر، ويرسخ من الشعور بقيمة الذات والثقة بالنفس.
تمتد فوائده إلى الصحة الجسمية، فهل يمكن أن تقومي عن قصد ودراية بإيذاء من تحبين؟ فحب الذات يدفعنا إلى تبني سلوكيات صحية مثل تناول الطعام الصحي، ممارسة الرياضة، الانخراط في نشاطات لتنمية الذات وتحفيز الإبداع. إلى جانب البحث عن أدوات واستراتيجيات لتخفيف التوتر والقلق.

كيف يغير حب الذات حياتنا إلى الأفضل؟
يؤثر على طريقة تعاملنا مع أنفسنا والآخرين إلى حدٍ كبير، ويعيد تشكيلها بما يضمن ويعزز من رفاهنا الشخصي. إليك أبرز محاور حب الذات:
المحور الأول: العلاقات الشخصية
التعامل مع الآخرين بثقة:
يمضي عمر أغلب الناس وهم يشعرون بالسوء أو الامتعاض من أنفسهم، يقسون عليها، ويفتقدون إلى الرحمة واللطف مع الذات. فيصبحون متوترين، قلقين، شكاكين، مضحين بحاجاتهم الخاصة في سبيل إرضاء الآخرين.
عندما تحبين نفسك، تصبحين قادرة على التفاعل مع الآخرين بثقة. تعرفين كيف تسهمين في العلاقة، وكيف تقدمين فيها من منطلق الشعور بالثقة، وأنت تكوني على سجيتك. تعرفين قيمتك وترفضين العلاقات غير المبنية على الاحترام والتقدير.
وضع الحدود دون الخوف من الرفض:
حب الذات يمنحك الشجاعة لقول “لا” للآخرين، وألا تضعي حاجاتهم قبل حاجاتك الشخصية. يبدأ وضع الحدود الصحية بإعطاء الأولوية لنفسك ولرغباتك ووقتك. قد يبدو لك أنانية إلا أنه ليس كذلك، عندما تضعين حدودك سيحترمك الآخرون، وأنت بدورك ستحترمين حدودهم الخاصة وتقدرينها، وبهذه الطريقة تزرعين صداقات قابلة للنمو والازدهار. إن وضع حدود سليمة يعني أنك ستقدمين أفضل ما لديك في هذه العلاقة، وبالتالي تصبح علاقاتك صحية ومتوازنة.
التوقف عن الاهتمام بآراء الآخرين:
يضع الكثيرون أنفسهم تحت رحمة ما يعتقده الآخرون عنهم، يصبحون عبيد آراء الآخرين. لذا لا يشعرون بالرضا عن أنفسهم إلا إذا تلقوا المديح أو الثناء أو اللايكات من الآخرين. لكن مع حب الذات تنقلب الموازين، تستعيدين منهم حريتك وقوتك، تصبحين وحدك من تحدد كيف تشعر وكيف تنظر إلى نفسها. تتعلمين تقدير الذات وخياراتك وقيمتك، وبهذا ستتوهج طاقتك لأن لا أحد يملك القدرة على المساس بها، تنبع من داخلك فقط وأنت الحامية لها.
المحور الثاني: العلاقة مع أجسامنا
يعيد حب الذات صياغة علاقتنا بأجسامنا لا كقطع يجب تعديلها لتتوافق مع معايير الجمال السائدة والمزيفة، بل كمساحات حقيقية مقدسة.
حب الذات يحسّن الصحة الجسمية:
يخفف حب الذات من مستويات التوتر والقلق فينعكس إيجابًا على صحة القلب وضغط الدم. كما تعمل تقنيات الاسترخاء والامتنان المرتبطة بحب الذات على تحسين جودة النوم.
بالإضافة إلى ذلك، يقوي حب الذات جهاز المناعة، ويرفع من قدرة الجسم على مقاومة العدوى والأمراض. والعلاقة الرحيمة مع الجسم تسهم في إدارة الألم وتساعد الفرد على تحمل الألم.
الاحترام والإصغاء والمداواة:
سيفضي حب الذات إلى حب الجسم وتقديره لا محال. ستتعلمين كيفية الإصغاء إليه والإنصات إلى حاجاته الخاصة من تعب، جوع، ألم، رغبة في الراحة أو بالنشاط وتلبيتها. يعلمنا حب الذات كيف نتعامل مع أجسامنا بحب وشفقة ورحمة، نعتني بها كطفل يحتاج إلى الرعاية والحنان، كمعجزة مكونة من 28 ترليون خلية تعمل بلا توقف وبطريقة مدهشة للغاية كي تعيشي أنت، أفلا يستحق جسمك الحب والاحترام؟
تحطيم معايير الجمال الزائفة:
مع حب الذات يصبح معيار الجمال هو معيارك الخاص، هو إحساسك بذاتك، هو طاقتك التي تتوهجين بها. تتحررين من صورة الجسم في وسائل التواصل الاجتماعي والمعايير التي يروّج لها الإعلام المرئي. ترين جسمك كما هو على حقيقته في حركته وطاقته وتناغمه وإعجازه. باختصار، حب الذات يعيد لموئل الروح المؤقت كرامته ومقامه الحقيقي.
المحور الثالث: في بيئة العمل والنجاح
يتجاهل الناس حب الذات ويعتبرونه مضيعة للوقت كونه يركز على ما هو شخصي للغاية. كما نتخلى عن فكرة أننا ذوو قيمة ونستحق الحب والرعاية لنهتم بشؤون الناس والأشياء خارج ذواتنا.
إلا أننا عندما نحب ذواتنا:
– نسمح لأنفسنا بتحقيق النجاح والخروج من الظل إلى الضوء. وبالتالي لا نخفي طموحنا بدافع الخوف أو الحكم أو الرفض، بل نكرّم قدراتنا ومواهبنا الفريدة، ونعبّر عنها بثقة. ويصبح النجاح عبارة عن مساحة للتعبير عن أصالتنا لا عبئًا نفسيًا.
– يساعدنا حب الذات في طلب ما نستحقه دون خجل أو شعور بالذنب من ترقية أو تغيير بيئة العمل أو طلب راتب أعلى أو وضع حدود واضحة بين الجهود والراحة النفسية.
– حب الذات ينعكس على فريق العمل، فعندما تحب ذاتك وتحترمها وتهتم بها، ستتعامل بالطريقة ذاتها تلقائيًا مع الآخرين. وبالاحترام المتبادل والتعاطف الصادق تعملين على تمكين فريقك.

عوائق حب الذات عند المرأة العربية
قد يبدو للبعض أن حب الذات مفهوم بسيط في ظاهره، إلا أن تطبيقه يواجه صعوبات حقيقية بما له من جذور عميقة في الوعي الجمعي للمرأة العربية.
– الاتهام بالأنانية: تُعلّم الفتاة أن الأفضلية دائمًا لمن تضحي بنفسها للآخرين، وتضع حاجاتها في آخر القائمة أو لا تكن لها حاجات على الإطلاق. وعندما تفكر في أن تختار نفسها تهاجمها أصوات من داخلها: هذه أنانية!
– فرض التضحية: يتوقع المجتمع من المرأة أن تضحي دائمًا بسعادتها وحياتها وأحلامها وطموحها وصحتها باسم الواجب أو الصبر. وعندما تفكر في التغيير يضغطون عليها لتعديل رأيها. ومن العبارات المتداولة: الأم الجيدة تضحي، الزوجة الجيدة تصبر وتتحمل، كلنا عانينا وتحملنا.
– المراقبة والتقييم: ما يرهق المرأة العربية أيضًا أنها مراقبة وتتعرض للأحكام القاسية طوال الوقت بناءً على بيتها وعملها وجسمها وأمومتها. متيقظون ومتأهبون لتصيد أخطائها وزلاتها.
زينة إحدى صديقاتي، وهي امرأة جميلة ومديرة موارد بشرية تقدّم كل شيء لابنتها الوحيدة من دورات في الموسيقا والباليه والرسم. لكنها كلما فكرت في التسجيل في نادي رياضي للياقة البدنية تخلق حججًا واهية. فهي لم ترَ نموذجًا واحدًا يجعلها تحتذيه من أمها أو خالاتها أو عماتها يولي اهتمامًا لحاجاته الشخصية.
وكما أشارت المستشارة التربوية غزل بغدادي في أحد فيديوهاتها على الانستغرام، أن المرأة المضحية بنفسها سيكبر أبنائها على أحد هذين النوعين: إما الأنا الخاصة به متضخمة جدًا لأن من حوله يفعلون كل شيء لإرضائه. أو نسخة عن الأم، حيث يضحي الابن بنفسه لأجل إرضاء الآخرين.
حاجتنا إلى التغيير ضرورة ويبدأ من فهم أن حب الذات ليس أنانية بل هو الجذر الصحي والصحيح لتزهر منه علاقات صحية مع الأصدقاء والأهل والزوج والأبناء.
خطوات عملية نحو حب الذات
حب الذات هو ممارسة يومية نبني من خلالها علاقة جديدة وطيبة مع أنفسنا. يمكن بالخطوات التالية أن نبدأ رحلتنا في حب الذات:
مراقبة الصوت الداخلي: من الضروري أن نكون واعين بالطريقة التي نتحدث بها مع أنفسنا. هل نشتمها؟ هل نوبخها؟ كيف تتعاملين معها عند ارتكاب خطأ؟ يجب إطلاق صوت الرحمة والتعاطف والحوار الرقيق كأنك تتحدثين مع طفلة أو صديقة مقربة.
التواصل مع الجسم: الإصغاء لحاجات الجسم ورغباته خطوة أساسية لتعزيز حب الذات. كذلك تواصلي معه أكثر من خلال الرقص، التحرك، الرياضة، الاستلقاء، التأمل. كل حركة واعية تعيدك إلى مركزك، ويجعلك تستقرين في نفسك. إن جسمك هو ملاذك الآمن يستحق الحب والاحترام لا الأذى أو الإهمال.
التدوين للتنفيس: تشعرين بالإنزعاج دوّني ما يزعجك، تشعرين بالغضب دوني ذلك. اكتبي رسائل للطفلة التي كنتها يومًا، ودوني أحلام الشابة المقبلة على الحياة، سجلي ما ترغبين في تحقيقه والأمور التي تودين أن تتخلصي منها. يساعدك التدوين في توضيح أفكارك ومشاعرك.
وضع الحدود الصحية: لست مضطرة لتبرري أو تشرحي للآخرين مواقفك أو قراراتك. قولي “لا” بثقة لا لأنك قاسية بل لأنك تفضلين الوضوح. فاحترام الذات يبدأ من احترام الوقت والجسم والطاقة.
الاحتفال بالنفس: مع كل خطوة تخطينها في حب الذات توقفي لتهنئة نفسك، حتى في أبسط الإنجازات. فالعمل على تغيير شبكة الأنماط المعقدة التي ورثناها من العائلة والمجتمع هو جهد جبّار يستحق الاحتفال والتقدير.
حين تبدئين رحلتك نحو حب الذات، فأنت تطلقين أشرعة قوتك الداخلية. تتخلين عما لا يخدمك، تضعين الحدود حيثما يجب، تختارين علاقات تُشبهك، وتفتحين الأبواب لما تستحقينه بالفعل. ابدئي بخطوة، ولو كانت صغيرة، مثلًا اشكري نفسك لأنك قرأت مقالًا كاملًا عن حب الذات على مدونة “امرأة ميتا” – منصة المرأة الواعية بذاتها ❤️.
المراجع:
اقرئي أيضًا:
أهم 15 وضعية من تمارين اليوغا بالصور (دليل اليوغا وأصوله)
ملف التحرش الجنسي ورحلة تشافي ديمة من الصمت إلى المواجهة (1)